نبذة تاريخية عن الشاعر نزار قباني
2 مشترك
عالم محبي الموسيقار كاظم الساهر :: الأقسام العامة :: ملتقى روائع الشعر العربي والشعراء الكبار :: نزار قباني
صفحة 1 من اصل 1
نبذة تاريخية عن الشاعر نزار قباني
نبذه عن شاعر المرأه...و كانت مكتوبه عن بقلمه...قال فيها نزار الولادة على سرير أخضر...
لولادة على سرير أخضر
يوم ولدتُ في 21 آذار(مارس) 1923 في بيت من بيوت دمشق القديمة, كانت الأرض هي الأخرى في حالة ولادة.. و كان الربيع يستعد لفتح حقائبه الخضراء.
الأرض و أمي حملتنا في وقت واحد..و وضعتنا في وقت واحد.
هل كانت مصادفة يا ترى أن تكون ولادتي هي الفصل الذي تثور فيه الأرض على نفسها, و ترمي فيه الأشجار كل أثوابها القديمة؟ أم كان مكتوباً عليَ أن أكون كشهر آذر, شهر التغيير و التحولات؟.
كل الذي أعرفه أنني يوم ولدتُ, كانت الطبيعة تنفذ إنقلابها على الشتاء.. و تطلب من الحقول و الحشائش و الأزهار و العصافير أن تؤيدها في إنقلابها..على روتين الأرض.
هذا ما كان يجري في داخل التراب, أما في خارجه فقد كانت حركة المقاومة ضدّ الإنتداب الفرنسي تمتد من الأرياف السورية إلى المدن و الأحياء الشعبية. و كان حي (الشاغور), حيث كنا نسكن, معقلاً من معاقل المقاومة, و كان زعماء هذه الأحياء الدمشقية من تجار و مهنيين, و أصحاب حوانيت, يمولون الحركة الوطنية, و يقودونها من حوانيتهم و منازلهم.
أبي, توفيق القباني, كان واحداً من هؤلاء الرجال, و بيتنا واحداً من تلك البيوت.
و يا طالما جلست في باحة الدار الشرقية الفسيحة, أستمع بشغف طفولي غامر, إلى الزعماء السياسيين السوريين يقفون في إيوان منزلنا, و يخطبون في ألوف الناس, مطالبين بمقاومة الإحتلال الفرنسي, و محرضين الشعب على الثورة من أجل الحريّة.
و في بيتنا في حي (مئذنة الشحم) كانت تعقد الإجتماعات السياسية ضمن أبواب مغلقة, و توضع خطط الإضرابات و المظاهرات و وسائل المقاومة. و كنا من وراء الأبواب نسترق الهمسات و لا نكاد نفهم منها شيئاً..
و لم تكن مخيلتي الصغيرة في تلك الأعوام من الثلاثينيات قادرة على وعي الأشياء بوضوح. و لكنني حين رأيت عساكر السنغال يدخلون في ساعات الفجر الأولى منزلنا بالبنادق و الحراب و يأخذون أبي معهم في سيارة مصفحة إلى معتقل (تدمر) الصحراوي..عرفت أن أبي كان يمتهن عملاً آخر غير صناعة الحلويّات..كان يمتهن صناعة الحريّة.
كان أبي إذن يصنع الحلوى و يصنع الثورة. و كنت أعجب بهذه الإزدواجية فيه, و أدهش كيف يستطيع أن يجمع بين الحلاوة و بين الضراوة.
1970
دارنا الدمشقية....المعزوفة الثانية...بعد الولادة
دارنا الدمشقية
لا بدَّ من العودة مرةً أخرى إلى الحديث عن دار (مئذنة الشحم) لأنها المفتاح إلى شعري, و المدخل الصحيح إليه.
و بغير الحديث عن هذه الدار تبقى الصورة غير مكتملة, و منتزعة من إطارها.
هل تعرفون معنى أن يسكن الإنسان في قارورة عطر؟ بيتنا كان تلك القارورة.
إنني لا أحاول رشوتكم بتشبيه بليغ,و لكن ثقوا أنني بهذا التشبيه لا أظلم قارورة العطر ..و إنما أظلم دارنا.
و الذين سكنوا دمشق, و تغلغلوا في حاراتها و زواريبها الضيقة, يعرفون كيف تفتح لهم الجنة ذراعيها من حيث لا ينتظرون...
بوّابة صغيرة من الخشب تنفتح. و يبدأ الإسراء على الأخضر, و الأحمر, و الليلكيّ, و تبدء سمفونية الضوء و الظّل و الرخام.
شجرة النارنج تحتضن ثمارها, و الدالية حامل, و الياسمينة ولدت ألف قمر أبيض و علقتهم على قضبان النوافذ..و أسراب السنونو لا تصطاف إلا عندنا..
أسود الرخام حول البركة الوسطى تملأ فمها بالماء.. و تنفخه.. و تستمر اللعبة المائية ليلاً و نهاراً..لا النوافير تتعب.. و لا ماء دمشق ينتهي..
الورد البلديّ سجَّاد أحمر ممدود تحت أقدامك.. و اللَّيلكَة تمشط شعرها البنفسجي, و الشِمشير, و الخبَّيزة, و الشاب الظريف,و المنثور, و الريحان, و الأضاليا.. و ألوف النباتات الدمشقية التي أتذكَّر ألوانها و لا أتذكر أسمائها.. لا تزال تتسلق على أصابعي كلَّما أرت أن أكتب..
القطط الشامِّية النظيفة الممتلئة صحةً و نضارة تصعد إلى مملكة الشمس لتمارس غزلها و رومانتيكيتها بحريّة مطلقة, و حين تعود بعد هجر الحبيب و معها قطيع من صغارها ستجد من يستقبلها و يُطعمها و يكفكف دموعها..
الأدراج الرخاميّة تصعد.. و تصعد..على كيفها..و الحمائم تهاجر و ترجع على كيفها.. لا أحد يسألها ماذا تفعل؟ و السمكُ الأحمر يسبح على كيفه.. و لا أحد يسأله إلى أين؟
و عشرون صحيفة فثلّ في صحن الدار هي كل ثروة أمي.
كلُّ زّر فّلٍ عندها يسلوي صبيّاً من أولادها.. لذاك كلما غافلناها و سرقنا ولداً من أولادها..بكتْ..و شكتنا إلى الله..
***
ضمن نطاق هذا الحزام الأخضر.. و لدتُ, و حبونُ, و نطقتُ كلماتي الأولى.
كان إصطدامي بالجمال قدراً يومياً. كنتُ إذا تعثّرتُ أتعثّر بجناح حمامة.. و إذا سقطتُ أسقط على حضن وردة..
هذا البيت الدمشقي الجميل استحوذ على كل مشاعري و أفقدني شهِّية الخروج إلى الزقاق.. كما يفعل الصبيات في كل الحارات.. و من هنا نشأ عندي هذا الحسُّ (البيتوتّي) الذي رافقني في كلّ مراحل حياتي.
إنني أشعر حتى اليوم بنوع من الإكتفاء الذاتي, يجعل التسَّكع على أرصفة الشوارع, و اصطياد الذباب في المقاهي المكتظة بالرجال, عملاً ترفضه طبيعتي.
و إذا كان نصف أدباء العالم قد تخرج من أكادمية المقاهي, فإنني لم أكن من متخرّجيها.
لقد كنت أؤمن أن العمل الأدبي عمل من أعمال العبادة, له طقوسه و مراسمه و طهارته, و كان من الصعب عليَّ أن أفهم كيف يمكن أن يخرج الأدب الجادّ من نرابيش النراجيل, و طقطقة أحجار النرد..
***
طفولتي قضيتها تحت.... مظلّة الفيْ و الرطوبة
التي هي بيتنا العتيق في
مئذنة الشحم........
كان هذا البيت هو نهاية حدود العالم عندي, كان الصديق, و الواحة, و المشتى, و المصيف..
أستطيع الآن, أن أغمض عيني و أعد مسامير أبوابه, و أستعيد آيات القرآن المحفورة على خشب قاعاته.
أستطيع الآن أن أعدّ بلاطاته واحدةً..واحدة.. و أسماك بركته واحدةً..واحدة.. و سلالمه الرخاميّة درجةً..درجة..
أستطيع أن أغمض عيني, و أستعيد, بعد ثلا ثيين سنة مجلسَ أبي في صحن الدار, و أمامه فنجان قهوته, و منقله, و علبة تبغه, و جريدته.. و على صفحات الجريدة تساقط كلّ خمس دقائق زهرة ياسمين بيضاء.. كأنها رسالة حبّ قادمة من السماء..
على السجادة الفارسيّة الممدودة على بلاط الدار ذاكرتُ دروسي, و كتبتُ فروضي, و حفظتُ قصائد عمر بن كلثوم, و زهير, و النابغة الذبياني, و طرفة بن العبد..
هذا البيت-المظّلة ترك بصماته واضحة على شعري. تماماً كما تركت غرناطة و قرطبة و إشبيليا بصماتها على الشعر الأندلسي.
القصيدة العربية عندما وصلت إلى إسبانيا كانت مغطّاةً بقشرة كثيفة من الغبار الصحراوي.. و حين دخلتْ منطقة الماء و البرودة في جبال (سييرا نيفادا) و شواطئ نهر الوادي الكبير..
و تغلغلت في بساتين الزيتون و كروم العنب في سهول قرطبة, خلعت ملابسها و ألقت نفسها في الماء.. و من هذا الإصطدام التاريخي بين الظمأ و الريّ..وُلِدَ الشعر الأندلسيّ..
هذا هو تفسيري الوحيد لهذا الإنقلاب الجذريّ في القصيدة العربية حين سافرتْ إلى إسبانيا في القرن السابع.
إنها بكل بساطة دخلتْ إلى قاعة مكيّفة الهواء..
و الموشحات الأندلسية ليست سوى قصائد مكيفة الهواء..
و كما حدث للقصيدة العربية في إسبانيا حدث لي, امتلأت طفولتي رطوبة, و امتلأت دفاتري رطوبة, و امتلأت أبجديتي رطوبة..
هذه اللغة الشاميّة التي تتغلغل في مفاصل كلماتي, تعلَّمتها في البيت-المظّلة الذي حدثتكم عنه..
و لقد سافرت كثيراً بعد ذلك, و ابتعدت عن دمشق موظفاً في السلك الديبلوماسي نحو عشرين عاماً و تعلمت لغاتً كثيرة أخرى, إلاَّ أن أبجديتي الدمشقية ظلت متمسكة بأصابعي و حنجرتي, و ثيابي. و ظللتُ ذلك الطفل الذي يحمل في حقيبته كلَّ ما في أحواض دمشق, من نعناعٍ, و فلّ, و ورد بلدي..
إلى كل فنادق العالم التي دخلتُها..حملتُ معي دمشق, و نمت معها على سريرٍ واحد.
المعزوفة الثالثة.....لنزار قباني
أسرتي و طفولتي
في التشكيل العائلي, كنت الولد الثاني بين أربعة صبيان و بنت, هم المعتز و رشيد و صباح و هيفاء.
أسرتنا من الأسر الدمشقية المتوسطة الحال. لم يكن أبي غنياً و لم يجمع ثروة, كل مدخول معمل الحلويات الذي كان يملكه, كان ينفق على إعاشتنا, و تعليمنا, و تمويل حركة المقاومة الشعبية ضدّ الفرنسيين.
و إذا أردت تصنيف أبي أصنفه دون تردد بين الكادحين, لأنه أنفقخمسين عاماً من عمره, يستنشق روائح الفحم الحجري, و يتوسد أكياس السكَّر, و ألواح خشب السحاحير..
و كان يعود إلينا من معمله في زقاق (معاوية) كلَّ مساء, تحت المزاريب الشتائية كأنه سفينة مثقوبة..
و إني لأتذّكر وجه أبي المطلي بهباب الفحم, و ثيابه الملطخة بالبقع و الحروق, كلّما قرأت كلامَ من يتّهمونني بالبرجوازية و الأنتماء إلى الطبقة المرفهة, و السلالات ذات الدم الأزرق..
أي طبقة.. و أي دم أزرق.. هذا الذي يتحدثون عنه؟
إن دمي ليس ملكياً, و لا شاهانياً, و إنما هو دم عادي كدم آلاف الأسر الدمشقة الطيبة التي كانت تكسب رزقها بالشرف و الإستقامة و الخوف من اللّه..
وراثياً, في حديقة الأسرة شجرة كبيرة..كبيرة..إسمها أبو خليل القباني. إنه عمّ والدتي و شقيق جدّ والدي..
قليلون منكم_ربّما_ من يعرفون هذا الرجل.
قليلون من يعرفون أنه هزّ مملكة, و هزَّ باب (الباب العالي) و هزَّ مفاصل الدولة العثمانيَّة, في أواخر القرن التاسع عشر.
أعجوية كان هذا الرجل. تصوَّرووا إنساناً أراد أن يحول خانات دمشق التي كانت تزرب فيها الدواب إلى مسارح..و يجعل من دمشق المحافظة, التقيّة, الورعة..(برودواي) ثانية..
خطيرة كانت أفكار أبي خليل.و أخطر ما فيها أنه نفَّذها.. و صُلب من أجلها..
أبو خلبل القبّاني كان إنسكلوبيديا بمئة مجلد و مجلد.. يؤلف الروايات, و يخرجها, و يكتب السيناريو, و يضع الحوار الحوار, و يصمم الأزياء, و يغني و يمثل, و يرقص, و يلحّن كلام المسرحيات, و يكتب الشعر بالعربية و الفارسيّة.
و حين كانت دمشق لا تعرف من الفن المسرحيّ غير خيمة (قره كوز) و لا تعرف من الأبطال, غير أبي زيد الهلالي, و عنترة, و الزير..كان أبو خليل يترجم لها راسّين عن الفرنسية..
و في غياب العنصر النسائي, اضطر الشيخ إلى إلباس الصبية ملابس النساء, و إسناد الأدوار النسائية إليهم, تماماً مثلما فعل شكسبير في العصر الفيكتوري.
و طار صواب دمشق, و أصيب مشايخها, و رجال الدين فيها بإنهيار عصبيّ, فقاموا بكل ما يملكون من وسائل, و سلّطوا الرعاع عليه ليشتموه في غدوه و رواحه, و هجوه بأقذر الشعر, و لكنه ظل صامداً, و ظلّت مسرحياته تعرض في خانات دمشق, و يقبل عليها الجمهور الباحث عن الفن النظيف.
و حين يئس رجال الدين الدمشقيون من تحطيم أبي خليل, ألفوا وفداً ذهب إلى الأستانة و قابل الباب العالي, و أخبره أنَّ أبا خليل القباني يشكل خطراً على مكارم الأخلاق, و الدين, و الدولة العليّة, و أنه إذا لم يُغْلَق مسرحه, فسوف تطير دمشق من يد آل عثمان..و تسقط الخلافة.
طبعاً خافت الخلافة على نفسها, و صدر فرمان سلطاني بإغلاق أول مسرح طليعي عرفه الشرق و غادر أبو خليل منزله الدمشقي إلى مصر, و ودّعته دمشق كما تودّع كلُّ المدن المتجرة موهوبيها, أي بالحجارة, و البندورة, و البيض الفاسد..
و في مصر, التي كانت أكثر إنفتاحاً على الفن, و أكثر فهماً لطبيعة العمل الفني, أمضى أبو خليل بقيَّة أيام حياته, و وضع الحجر الأول في بناء المسرح الغنائي المصري.
إن انقضاض الرجعيّة على أبي خليل, هو أول حادث استشهاد فنيّ في تاريخ أسرتنا..و حين افكر في جراح أبي خليل, و في الصليب الذي حمله على كتفيه, و في ألوف المسامير المغروزة في لحمه, تبدو جراحي تافهة..و صليبي صغيراً صغيراً
فأنا أيضاً ضربتني دمشق بالحجارة, و البندورة, و البيض الفاسد..حين نشرتُ عام 1954 قصيدتي (خبز و حشيش و قمر)..
العمائم نفسها التي طالبت بشتق أبي خليل طالبت بشنقي..و الذقون المحشوّة بغبار التاريخ التي طلبت رأسه طلبت رأسي..
(خبز و حشيش و قمر) كانت أول مواجهة بالسلاح الأبيض بيني و بين الخرافة..و بين التاريخين..
1970
يتبع
عدل سابقا من قبل نبض القيصر في السبت أبريل 05, 2008 12:29 am عدل 1 مرات
رد: نبذة تاريخية عن الشاعر نزار قباني
[size=18]
-مقال عن حياة الاستاذ نزار, جاء في مجلة زهرة الخليج عام 2001-عدد 1153
محام قضيته الوحيدة "المرأة"..
مر بالشعر العربي كثيرون, وكثيرون منهم عباقرة و"فطاحل" في عالم الشعر
غير أن واحدا فقط, أثار من الضجيج والحب والكراهية والاعجاب والرفض, ما لم يثره الآخرون
هونزار قباني شاعر الحب والمرآة, والوطن وديوان العشق العربي على مدى خمسين عاما, الذي توفي قبل ثلاثة أعوام, في الثلاثين من ابريل (نيسان) سنة 1998
وترك لنا 35 ديوانا وكتابا, من أجمل ما كتب في الشعر العربي, وشجون الانسان العربي
عرف نزار قباني في شرق الوطن العربي وفي غربه, وقرأ له رجال ونساء, وأعجب به صغار وكبار, وصارت دواوينه مثل روايات احسان عبد القدوس, مما يزرع في المخدة أو يهجع في السرير
ولد نزار قباني سنة 1923, في" مئذنة الشحم" في دمشق, ليعيش طفولته مدللا بين اخوته, في منزله الدمشقي الأصيل, وهو من البيوت الشامية القديمة, ويتكون من طابقين, أحدهما باحة مكشوفة مصنوعة من الرخام والأعمدة الرخامية, التي يتسلقها الياسمين الأبيض والورد الأحمر وفيها شجر الليمون, وفي منتصف الباحة نافورة مياه
نشأ نزار في هذا الجو الرومانسي الجميل, تربطه بأمه علاقة حميمة. فقد ظلت ترضعه من صدرها حتى بلغ السابعة من عمره, وتطعمه الطعام بيدها حتى بلغ الثالثة عشرة من عمره, حتى قالوا عنه انه يعاني من عقدة "اوديب" عاشق أمه, حتى أن بعض العلماء النفسيين أخذ يطبق علم النفس على شعر نزار, ويرى أن سر استعماله كلمة "نهد" هو طول فترة رضاعته
وعندما كان في الثالثة عشرة من عمره كان ضيوف أبيه يسألون: "ماهي اهتمامات نزار؟" فيجيبهم والده بكل بساطة :"ابني يريد أن يكون شاعرا" فيتغير لون سائليه, ويتصبب العرق البارد من جباههم ويلتفتون الى بعضهم قائلين: "لا حول ولا قوة الا بالله..قل لن يصيبنا الا ما كتب الله لنا
لكن نزار لم يبدأ حياته شاعرا بل بدأ بأشياء فنية أخرى مثل الرسم, وكان مولعا بالألوان ويصبغ الجدران بها. وأدرك أن لن يكون رساما عبقريا, فقرر أن يجرب الموسيقى والتلحين, فأحضر عودا وطلب من أمه أن تأتي له بأستاذ يعلمه العود والموسيقى. وبدأ يتلقى دروسه الموسيقية. لكن الأستاذ بدأ معه بطريقة غير موفقة, فقد بدأ يعلمه النوتة الموسيقية, وهي علم مثل الرياضيات, حسب قوله, وهو يكره الرياضيات
كان عمره 16 عاما, عندما سافر سنة 1939 في رحلة بحرية الى روما مع المدرسة. وأثناء وقوفه على سطح السفينة, شاهد الأمواج والدرافيل, وهي تقفز حول الباخرة فجأة أول بيت شعري ثم الثاني والثالث الرابع, وهكذا
فنزل سريعا وكتب الأبيات كي لا ينساها ولا تضيع, واضعا اياها طي الكتمان حتى لايسخر أصحابه. ونام تلك الليلة, ولأول مرة في حياته, يوم 15 أغسطس شاعرا للمرة الأولى واستيقظ وهو شاعر أيضا
التحق نزار بكلية الحقوق لدراسة القانون ولم يمارس قضية الدفاع في حياته الا عن قضية واحدة, وهي قضية المرآة
عندما كبر نزار قباني وصار شابا, لم ينفصل عنه الطفل, بل كبر معه بكل سلوكياته الصاخبة وأنانيته. وعندما فشل في أن يكون رساما أو موسيقيا, قرر أن يكون شاعرا, وهو يعرف تماما أن التفرد لن يكون الا بالاختلاف, وهي موهبة لا يجيدها كثيرون
ومنذ ديوانه الأول "قالت لي السمراء" الذي أصدره نزار قباني, الطالب في كلية الحقوق, وعلى نفقته الخاصة, أثار هذا الصوت المختلف جدلا عنيفا, وصفه نزار في ما بعد فقال "لقد هاجموني بشراسة وحش مطعون, وكان لحمي يومئذ طريا
ويسهل أن نتصور رد الناس على شاعر لم يبلغ العشرين من عمره يتوجه لهم بقصيدة عنوانها "خبز وحشيش وقمر" , ينتقد بها سلوكياتهم. فقد هلل أناس للقصيدة, بينما طالب آخرون برأس من قالها, ويبدو أن الضجة أثارت شهية الطفل الشاب نزار ووجدها أول سطر في كتابه الأسطوري
تخرج نزار سنة 1945 من كلية الحقوق في جامعة دمشق, ثم التحق بوزارة الخارجية السورية, وانتقل في العام ذاته الى القاهرة موظفا دبلوماسيا في السفارة السورية. وكان عمره انذاك 22 عاما, وكانت القاهرة في ذروة نضجها الثقافي والصحافي والاذاعي, وكان نزار يحمل في جعبته ديوان شعر جديد اسمه خارج عن المألوف في عالم الكتاب وهو "طفولة نهد". وكانت صياغته الشعرية غير مألوفة أيضا في ذلك الزمان
قدم نزار الديوان لثلاثة من نجوم الفكر والصحافة والنقد, هم : توفيق الحكيم, وكامل الشناوي, وأنور المعداوي, الذي تحمس للشاعر الشاب, فكتب مقالا نقديا عن الديوان وحمله الى أحمد حسن الزيات, صاحب مجلة "الرسالة" المصرية. ولما كانت "الرسالة" كجلة محافظة, نشر الزيات نقد المعداوي, لكن بعد أن غير عنوان الديوان من "طفولة نهد" الى "طفولة نهر", فقال نزار تعليقا على هذا: "وبذلك أرضى (حسن الزيات) صديقه الناقد أنور المعداوي وأرضى قراء الرسالة المحافظين, الذين تخيفهم كلمة النهد وتزلزل وقارهم, ولكنه ذبح اسم كتابي الجميل من الوريد الى الوريد
وهكذا شهدت القاهرة ميلاد شاعر انطلق في بيئة تحفل بطه حسين, وعباس محمود العقاد, وعبد القادر المازني, وعبد العزيز البشري, وأحمد أمين, وبشر فارس, ودريني خشبة, وأحمد حسن الزيات, ومصطفى صادق الرافعي, ومحمود حسن اسماعيل, وبيرم التونسي, وابراهيم ناجي, ونجيب محفوظ, ويحيى حقي, وعزيز أباظة
وهكذا تعود على مصر وتعودت مصر عليه وصارت تعتبره واحدا من شعرائها أو من أولادها. لكن حياة الدبلوماسيين لا تستقر بهم, فانتقل نزار الى العمل في عدة عواصم بعد القاهرة, منها: أنقرة ولندن ومدريد وبكين وبيروت
وظل نزار يعمل في الخارجية السورية أكثر من 20 عاما, حتى استقال منها عام 1966, وأسس دارا للنشر باسمه في بيروت, متفرغا بذلك لقراره الوحيد, وهوالشعر
تزوج نزار بعد سنوات من انتسابه الى السلك الدبلوماسي السوري, بقريبة له هي "زهراء أقبيق", أم ابنه توفيق وابنته هدباء. وقد جاء زواجه بها في مرحلة البدء في اقلاعه نحو عالم الكفاح الصعب بسيف الشعر ونحو آفاق الشهرة. وكانت زهراء "سيدة بيت", نمت وترعرعت في بيئة اجتماعية محافظة شامية تقليدية, وكانت اتصالات ورسائل "المعجبات" قد بدأت تنهمر على نزار انهمار المطر, من شتى أرجاء الوطن العربي, وكان نزار وسميا أنيقا رشيقا قويا رقيقا في آن, ولم تكن لدى زهراء قدرة تعينها على تحمل أن يكون زوجها لها ولغيرها, فكانت تسارع الى تمزيق رسائل المعجبات به وبشعره, ولم يكن ثمة مفر من تصادم الماضي بالمستقبل الآتي الأكثر تطورا وجمالا, فطلقها نزار بالحسنى
وفي عقد الخمسينات ارتبط نزار بعلاقة, بحفيدة رئيس الوزراء السوري الأسبق "فارس الخوري", كوليت خوري, ابنه سهيل خوري, النائب الأسبق في المجلس النيابي السوري. وبعد زواجها بشاب اسباني فارع الطول ووسيم الملامح, أنجبت منه طفلتها الوحيدة, سجلت كوليت تفاصيل علاقة الحب العاصف التي جمعتها بنزار. وفي روايتها الأولى الشهيرة "أيام معه", وهي الرواية التي اشتراها المنتج السينمائي السوري صبحي فرحات لانتاجها للسينما, كان نزار هو بطل الرواية
التقى نزار "بلقيس" للمرة الأولى, ولم يكن يعلم أن عقله وقلبه سيتعلقان بها الى هذا الحد المجنون, الذي دفعه رغم الرفض المتواصل, الى الاستمرار في التقدم لخطبتها حتى نال ما كان يحلم به, التقاها في حفل استقبال بسيط في احدى السفارات العربية في بيروت, وكان خارجا لتوه من أزمة وفاة زوجته الأولى"زهراء" الدمشقية, وولده "توفيق" الذي توفي اثر عملية جراحية للقلب في لندن, وهو لا يزال في الثانية والعشرين من عمره. وكانت ابنته الوحيدة "هدباء" قد تزوجت وانتقلت لتعيش مع زوجها في احدى دول الخليج العربي. كان نزار وحيدا تماما وكانت بلقيس قبيلة من النساء, هيفاء فرعاء يكاد شعرها يلامس الأرض في استرسال لم تر عين نزار مثله. هكذا رآها, عفية وهدارة بشكل جعله يعود الى كتابة الشعر مرة أخرى بعد توقف دام ثلاث سنوات, لم يكن يعرف له نزار مبررا. ويقول: "لكنها بلقيس, أعادت الحبر للأقلام مثلما أعادت الدماء للعروق
تقدم نزار لخطبة بلقيس لأول مرة عام 1962, لكن عائلتها رفضت لما كانت تسمع عن نزار من أنه شاعر النساء والغزل والحب, ولم تأمن على ابنتها أن تعيش مع رجل كل كلامه عن النساء. وظل نزار يلاحقها باصرار شديد مدة سبع سنين, رفضت خلالها أشخاصا عديدين لأنها تحب نزار على الرغم من أنه يكبرها كثيرا, فهي لم تتجاوز 23 عاما, وهو في سن الأربعين
وعاود الكرة عام 1969, وكانت الموافقة وتزوجا ليعيشا معا في بيروت, ورزقا بطفلين: زينب وعمر. ونعم نزار معها بحب عميق لا تشوبه شائبة ولا تعكر صفوه الأيام, حتى جاء اليوم المشؤوم الذي فقد فيه نزار كل شيء. فقد قتلت بلقيس عام 1981 في حادث انفجار دمر السفارة العراقية في بيروت, وصمت نزار لصيح وقد جن جنونه: "سأقول في التحقيق.. اني قد عرفت القاتلين..
بلقيس..يافرسي الجميلة..انني من كل تاريخي خجول
هذي بلاد يقتلون بها الخيول..
سأقول في التحقيق:
كيف أميرتي اغتصبت..
وكيف تقاسموا الشعر الذي يجري كأنهار الذهب
سأقول كيف استنزفوا دمها..
وكيف استملكوا فمها..فما تركوا به وردا
ولا تركوا به عنبا..
هل موت بلقيس..هو النصر الوحيد في تاريخ كل العرب؟"
وبكى نزار بمرارة زوجة سقته من حنانها 12 عاما, نعم فيها بالراحة والسكينة, وصار يجمع ولديه, زينب وعمر, ويغلق بابه منذ الغروب, بعيدا عن الناس, عله يسبح بخياله فيقابل طيف بلقيس
لماذا هو الشاعر الوحيد الذي عندما تقرأ كلماته أي امرأة تشعر بأنها هي التي تتكلم؟ ولماذا يحمل نزار لقب"نصير المرأة"؟ لماذا عاش ومات يدافع عن النساء؟
هو نفسه لا يدري, ويتساءل :" هل كان موت أختي في سبيل الحب, أهم العوامل النفسية التي جعلتني أتجه الى الكتابة عنها وعن مشاعرها واحساسها؟ هل كان ذلك تعويضا لما حرمت منه أختي؟
وعلى جسد المرآة, صعد نزار قباني رقيقا, مثل الفراشة الهامسة:
"حبك ياعميقة العينين
حبك مثل الموت أو الولادة
صعب أن يعاد مرتين"
وكان يخرج من رقته أحيانا ليدخل المجال الذي يحلو للآخرين أن يصفوه بالفحش وهو داخله
ومع هذا, كانت لنزار قباني آراء سياسية شديدة العمق. فرأيه أن مشكلتنا في العالم العربي هي التخلف وسيادة التفكير الضيق ودبلوماسية الوساطة والتوكيلات
وعن سلوكنا السياسي العربي يقول نزار:" ان سلوكنا السياسي هو مجموعة من السلبيات وسلسلة طويلة من الجبرية والقدرية, محاولة لدفع المسؤولية عن ظهورنا, وربطها بعوامل وقوى خاريجة لا قدرة لنا على دفعها أو ردها
حدثت منذ سنة 1967 انعطافة جذرية في شعر نزار, وتحول من شاعر المشاعر النسائية والجسد الأنثوي الى شاعر سياسي, فقال في نكسة يونيو(حزيران)1967, قصيدة ذائعة الصيت "هوامش على دفتر النكسة", لكن الشاعر الكبير صالح جودت, شن عليه هجوما بالغ العنف. لم يقتصر على الوقوف ضد قصيدة نزار, بل طالب بمنع بث أعماله في مصر. ويقال ان سبب تلك الحملة هو نجاح نزار المتميز في مصر, في مجال الغناء بعد طهور أغانيه المشهورة مثل "أيظن" و"ماذا أقول له
ونجحت الحملة وصدر قرار بمنع أغاني نزار وأشعاره من خلال التلفزيون المصري, بل ومنع اسمه نهائيا, وصدر في الكتمان قرار بمنعه من دخول مصر. وكانت تلك القرارت بالنسبة اليه أشبه باصدار حكم الاعدام
لكن نزار بادر وأرسل الى الرئيس الراحل جمال عبد الناصر رسالة, هذا جزء منها:
" سيادة الرئيس, في هذه الأيام التي أصبحت أعصابنا فيها رمادا وطوقتنا الأحزان من كل مكان, يكتب اليك شاعر عربي, يتعرض اليوم من قبل السلطات الرسمية في الجمهورية العربية المتحدة لنوع من الظلم لا مثيل له في تاريخ الظلم. وتفاصيل القصة انني نشرت في أعقاب النكسة قصيدة عنوانها "هوامش على دفتر النكسة", أودعتها خلاصة ألمي وتمزقي, وكشف فيها عن مناطق الوجع في جسد أمتي العربية, لاقتناعي بأن ما انتهينا اليه لا يعالج بالتواري والهروب, وانما بالمواجهة الكاملة لعيوبنا وسيئاتنا. واذا كانت صرختي حادة وجارحة, وأنا أعترف سلفا بأنها كذلك, فلأن الصرخة تكون في حجم الطعنة, ولأن النزيف بمساحة الجرح. ومن منا ياسيادة الرئيس لم يصرخ بعد 5 حزيران؟ من منا لم يخدش السماء بأظافره؟من منا لم يكره نفسه وثيابه وظله على الأرض؟ ان قصيدتي كانت محاولة لتقييم أنفسنا كما نحن..
وختم رسالته بقوله: "ياسيادة الرئيس, لا أريد أن أصدق أن مثلك يعاقب النازف على نزيفه, والمجروح على جراحه ويسمح باضطهاد شاعر عربي يريد أن يكون شريفا وشجاعا, في ظل مواجهة نفسه وأمته, فدفع ثمن صدقه وشجاعته
ياسادة الرئيس, لا أصدق أن يحدث هذا في عصرك!
وكان تاريخ الرسالة 30 تشرين الأول(اكتوبر)سنة 1967, ونجحت هذه الرسالة في انقاذ نزار قباني من "الاعلام" بعد أن أوصلها الكاتب أحمد بهاء الدين الى الرئيس عبد الناصر. وعادت اغانيه تردد في الاذاعة والتلفزيون, وعن هذا يقول نزار:" كسرت الحاجز بين السلطة والأدب
وهكذا طاف نزار بأشرعة الشعر بحار الحب وعوالم الحرية, وخاض بقلمه غمار السياسة, يدافع ن عروبته, واضعا أمته أمام نفسها بلا تزييف أو تضليل, لا لأنه يكرههم فيتنقص منهم ويقلل من قدرهم, بل أنه يحب العروبة والعرب ولا يريد لهم الانغماس في بحر عدو لدود شمر عن ذراعيه وجمع عتاده وسلاحه وتربص به ريب المنون
ولم يبعد نزار عن قضايا وطنه, حتى عندما استقر به المقام بعيدا في مدينة الضباب, لندن, حيث كان قلبه في اتجاه عروبته دائما.
وقبل الرحيل بعشر سنوات, عاود نزار الحنين الى المنزل الذي ولد فيه, والى شجرة الياسمين التي علمته حب الجمال. وشد الرحال الى دمشق, حيث زار المنزل العائلي, الذي نشأ فيه, وكأنه أراد أن يودع ملاعب الطفولة
وأن للغريب أن يعود الى حضن الأرض التي أنجبته. بعد أن أسلم نزار الروح في 30 ابريل عام 1998, عاد الى دمشق جثمانا محمولا بالطائرة, الى رحم التي علمته الشعر والابداع وأهدته أبجدية الياسمين. فقد أوصى نزار قائلا:" أدفن في دمشق, الرحم التي عملتني الشعر والابداع, وأهدتني أبجدية الياسمين
نزار قباني..ديوان العشق العربي..
-مقال عن حياة الاستاذ نزار, جاء في مجلة زهرة الخليج عام 2001-عدد 1153
محام قضيته الوحيدة "المرأة"..
مر بالشعر العربي كثيرون, وكثيرون منهم عباقرة و"فطاحل" في عالم الشعر
غير أن واحدا فقط, أثار من الضجيج والحب والكراهية والاعجاب والرفض, ما لم يثره الآخرون
هونزار قباني شاعر الحب والمرآة, والوطن وديوان العشق العربي على مدى خمسين عاما, الذي توفي قبل ثلاثة أعوام, في الثلاثين من ابريل (نيسان) سنة 1998
وترك لنا 35 ديوانا وكتابا, من أجمل ما كتب في الشعر العربي, وشجون الانسان العربي
عرف نزار قباني في شرق الوطن العربي وفي غربه, وقرأ له رجال ونساء, وأعجب به صغار وكبار, وصارت دواوينه مثل روايات احسان عبد القدوس, مما يزرع في المخدة أو يهجع في السرير
**المدلل**
ولد نزار قباني سنة 1923, في" مئذنة الشحم" في دمشق, ليعيش طفولته مدللا بين اخوته, في منزله الدمشقي الأصيل, وهو من البيوت الشامية القديمة, ويتكون من طابقين, أحدهما باحة مكشوفة مصنوعة من الرخام والأعمدة الرخامية, التي يتسلقها الياسمين الأبيض والورد الأحمر وفيها شجر الليمون, وفي منتصف الباحة نافورة مياه
نشأ نزار في هذا الجو الرومانسي الجميل, تربطه بأمه علاقة حميمة. فقد ظلت ترضعه من صدرها حتى بلغ السابعة من عمره, وتطعمه الطعام بيدها حتى بلغ الثالثة عشرة من عمره, حتى قالوا عنه انه يعاني من عقدة "اوديب" عاشق أمه, حتى أن بعض العلماء النفسيين أخذ يطبق علم النفس على شعر نزار, ويرى أن سر استعماله كلمة "نهد" هو طول فترة رضاعته
وعندما كان في الثالثة عشرة من عمره كان ضيوف أبيه يسألون: "ماهي اهتمامات نزار؟" فيجيبهم والده بكل بساطة :"ابني يريد أن يكون شاعرا" فيتغير لون سائليه, ويتصبب العرق البارد من جباههم ويلتفتون الى بعضهم قائلين: "لا حول ولا قوة الا بالله..قل لن يصيبنا الا ما كتب الله لنا
لكن نزار لم يبدأ حياته شاعرا بل بدأ بأشياء فنية أخرى مثل الرسم, وكان مولعا بالألوان ويصبغ الجدران بها. وأدرك أن لن يكون رساما عبقريا, فقرر أن يجرب الموسيقى والتلحين, فأحضر عودا وطلب من أمه أن تأتي له بأستاذ يعلمه العود والموسيقى. وبدأ يتلقى دروسه الموسيقية. لكن الأستاذ بدأ معه بطريقة غير موفقة, فقد بدأ يعلمه النوتة الموسيقية, وهي علم مثل الرياضيات, حسب قوله, وهو يكره الرياضيات
**ميلاده الشعري**
كان عمره 16 عاما, عندما سافر سنة 1939 في رحلة بحرية الى روما مع المدرسة. وأثناء وقوفه على سطح السفينة, شاهد الأمواج والدرافيل, وهي تقفز حول الباخرة فجأة أول بيت شعري ثم الثاني والثالث الرابع, وهكذا
فنزل سريعا وكتب الأبيات كي لا ينساها ولا تضيع, واضعا اياها طي الكتمان حتى لايسخر أصحابه. ونام تلك الليلة, ولأول مرة في حياته, يوم 15 أغسطس شاعرا للمرة الأولى واستيقظ وهو شاعر أيضا
التحق نزار بكلية الحقوق لدراسة القانون ولم يمارس قضية الدفاع في حياته الا عن قضية واحدة, وهي قضية المرآة
عندما كبر نزار قباني وصار شابا, لم ينفصل عنه الطفل, بل كبر معه بكل سلوكياته الصاخبة وأنانيته. وعندما فشل في أن يكون رساما أو موسيقيا, قرر أن يكون شاعرا, وهو يعرف تماما أن التفرد لن يكون الا بالاختلاف, وهي موهبة لا يجيدها كثيرون
ومنذ ديوانه الأول "قالت لي السمراء" الذي أصدره نزار قباني, الطالب في كلية الحقوق, وعلى نفقته الخاصة, أثار هذا الصوت المختلف جدلا عنيفا, وصفه نزار في ما بعد فقال "لقد هاجموني بشراسة وحش مطعون, وكان لحمي يومئذ طريا
ويسهل أن نتصور رد الناس على شاعر لم يبلغ العشرين من عمره يتوجه لهم بقصيدة عنوانها "خبز وحشيش وقمر" , ينتقد بها سلوكياتهم. فقد هلل أناس للقصيدة, بينما طالب آخرون برأس من قالها, ويبدو أن الضجة أثارت شهية الطفل الشاب نزار ووجدها أول سطر في كتابه الأسطوري
**العمل الدبلوماسي**
تخرج نزار سنة 1945 من كلية الحقوق في جامعة دمشق, ثم التحق بوزارة الخارجية السورية, وانتقل في العام ذاته الى القاهرة موظفا دبلوماسيا في السفارة السورية. وكان عمره انذاك 22 عاما, وكانت القاهرة في ذروة نضجها الثقافي والصحافي والاذاعي, وكان نزار يحمل في جعبته ديوان شعر جديد اسمه خارج عن المألوف في عالم الكتاب وهو "طفولة نهد". وكانت صياغته الشعرية غير مألوفة أيضا في ذلك الزمان
قدم نزار الديوان لثلاثة من نجوم الفكر والصحافة والنقد, هم : توفيق الحكيم, وكامل الشناوي, وأنور المعداوي, الذي تحمس للشاعر الشاب, فكتب مقالا نقديا عن الديوان وحمله الى أحمد حسن الزيات, صاحب مجلة "الرسالة" المصرية. ولما كانت "الرسالة" كجلة محافظة, نشر الزيات نقد المعداوي, لكن بعد أن غير عنوان الديوان من "طفولة نهد" الى "طفولة نهر", فقال نزار تعليقا على هذا: "وبذلك أرضى (حسن الزيات) صديقه الناقد أنور المعداوي وأرضى قراء الرسالة المحافظين, الذين تخيفهم كلمة النهد وتزلزل وقارهم, ولكنه ذبح اسم كتابي الجميل من الوريد الى الوريد
وهكذا شهدت القاهرة ميلاد شاعر انطلق في بيئة تحفل بطه حسين, وعباس محمود العقاد, وعبد القادر المازني, وعبد العزيز البشري, وأحمد أمين, وبشر فارس, ودريني خشبة, وأحمد حسن الزيات, ومصطفى صادق الرافعي, ومحمود حسن اسماعيل, وبيرم التونسي, وابراهيم ناجي, ونجيب محفوظ, ويحيى حقي, وعزيز أباظة
وهكذا تعود على مصر وتعودت مصر عليه وصارت تعتبره واحدا من شعرائها أو من أولادها. لكن حياة الدبلوماسيين لا تستقر بهم, فانتقل نزار الى العمل في عدة عواصم بعد القاهرة, منها: أنقرة ولندن ومدريد وبكين وبيروت
وظل نزار يعمل في الخارجية السورية أكثر من 20 عاما, حتى استقال منها عام 1966, وأسس دارا للنشر باسمه في بيروت, متفرغا بذلك لقراره الوحيد, وهوالشعر
**زواج وطلاق**
تزوج نزار بعد سنوات من انتسابه الى السلك الدبلوماسي السوري, بقريبة له هي "زهراء أقبيق", أم ابنه توفيق وابنته هدباء. وقد جاء زواجه بها في مرحلة البدء في اقلاعه نحو عالم الكفاح الصعب بسيف الشعر ونحو آفاق الشهرة. وكانت زهراء "سيدة بيت", نمت وترعرعت في بيئة اجتماعية محافظة شامية تقليدية, وكانت اتصالات ورسائل "المعجبات" قد بدأت تنهمر على نزار انهمار المطر, من شتى أرجاء الوطن العربي, وكان نزار وسميا أنيقا رشيقا قويا رقيقا في آن, ولم تكن لدى زهراء قدرة تعينها على تحمل أن يكون زوجها لها ولغيرها, فكانت تسارع الى تمزيق رسائل المعجبات به وبشعره, ولم يكن ثمة مفر من تصادم الماضي بالمستقبل الآتي الأكثر تطورا وجمالا, فطلقها نزار بالحسنى
وفي عقد الخمسينات ارتبط نزار بعلاقة, بحفيدة رئيس الوزراء السوري الأسبق "فارس الخوري", كوليت خوري, ابنه سهيل خوري, النائب الأسبق في المجلس النيابي السوري. وبعد زواجها بشاب اسباني فارع الطول ووسيم الملامح, أنجبت منه طفلتها الوحيدة, سجلت كوليت تفاصيل علاقة الحب العاصف التي جمعتها بنزار. وفي روايتها الأولى الشهيرة "أيام معه", وهي الرواية التي اشتراها المنتج السينمائي السوري صبحي فرحات لانتاجها للسينما, كان نزار هو بطل الرواية
**على عرش بلقيس**
التقى نزار "بلقيس" للمرة الأولى, ولم يكن يعلم أن عقله وقلبه سيتعلقان بها الى هذا الحد المجنون, الذي دفعه رغم الرفض المتواصل, الى الاستمرار في التقدم لخطبتها حتى نال ما كان يحلم به, التقاها في حفل استقبال بسيط في احدى السفارات العربية في بيروت, وكان خارجا لتوه من أزمة وفاة زوجته الأولى"زهراء" الدمشقية, وولده "توفيق" الذي توفي اثر عملية جراحية للقلب في لندن, وهو لا يزال في الثانية والعشرين من عمره. وكانت ابنته الوحيدة "هدباء" قد تزوجت وانتقلت لتعيش مع زوجها في احدى دول الخليج العربي. كان نزار وحيدا تماما وكانت بلقيس قبيلة من النساء, هيفاء فرعاء يكاد شعرها يلامس الأرض في استرسال لم تر عين نزار مثله. هكذا رآها, عفية وهدارة بشكل جعله يعود الى كتابة الشعر مرة أخرى بعد توقف دام ثلاث سنوات, لم يكن يعرف له نزار مبررا. ويقول: "لكنها بلقيس, أعادت الحبر للأقلام مثلما أعادت الدماء للعروق
تقدم نزار لخطبة بلقيس لأول مرة عام 1962, لكن عائلتها رفضت لما كانت تسمع عن نزار من أنه شاعر النساء والغزل والحب, ولم تأمن على ابنتها أن تعيش مع رجل كل كلامه عن النساء. وظل نزار يلاحقها باصرار شديد مدة سبع سنين, رفضت خلالها أشخاصا عديدين لأنها تحب نزار على الرغم من أنه يكبرها كثيرا, فهي لم تتجاوز 23 عاما, وهو في سن الأربعين
وعاود الكرة عام 1969, وكانت الموافقة وتزوجا ليعيشا معا في بيروت, ورزقا بطفلين: زينب وعمر. ونعم نزار معها بحب عميق لا تشوبه شائبة ولا تعكر صفوه الأيام, حتى جاء اليوم المشؤوم الذي فقد فيه نزار كل شيء. فقد قتلت بلقيس عام 1981 في حادث انفجار دمر السفارة العراقية في بيروت, وصمت نزار لصيح وقد جن جنونه: "سأقول في التحقيق.. اني قد عرفت القاتلين..
بلقيس..يافرسي الجميلة..انني من كل تاريخي خجول
هذي بلاد يقتلون بها الخيول..
سأقول في التحقيق:
كيف أميرتي اغتصبت..
وكيف تقاسموا الشعر الذي يجري كأنهار الذهب
سأقول كيف استنزفوا دمها..
وكيف استملكوا فمها..فما تركوا به وردا
ولا تركوا به عنبا..
هل موت بلقيس..هو النصر الوحيد في تاريخ كل العرب؟"
وبكى نزار بمرارة زوجة سقته من حنانها 12 عاما, نعم فيها بالراحة والسكينة, وصار يجمع ولديه, زينب وعمر, ويغلق بابه منذ الغروب, بعيدا عن الناس, عله يسبح بخياله فيقابل طيف بلقيس
**الموت والولادة**
لماذا هو الشاعر الوحيد الذي عندما تقرأ كلماته أي امرأة تشعر بأنها هي التي تتكلم؟ ولماذا يحمل نزار لقب"نصير المرأة"؟ لماذا عاش ومات يدافع عن النساء؟
هو نفسه لا يدري, ويتساءل :" هل كان موت أختي في سبيل الحب, أهم العوامل النفسية التي جعلتني أتجه الى الكتابة عنها وعن مشاعرها واحساسها؟ هل كان ذلك تعويضا لما حرمت منه أختي؟
وعلى جسد المرآة, صعد نزار قباني رقيقا, مثل الفراشة الهامسة:
"حبك ياعميقة العينين
حبك مثل الموت أو الولادة
صعب أن يعاد مرتين"
وكان يخرج من رقته أحيانا ليدخل المجال الذي يحلو للآخرين أن يصفوه بالفحش وهو داخله
ومع هذا, كانت لنزار قباني آراء سياسية شديدة العمق. فرأيه أن مشكلتنا في العالم العربي هي التخلف وسيادة التفكير الضيق ودبلوماسية الوساطة والتوكيلات
وعن سلوكنا السياسي العربي يقول نزار:" ان سلوكنا السياسي هو مجموعة من السلبيات وسلسلة طويلة من الجبرية والقدرية, محاولة لدفع المسؤولية عن ظهورنا, وربطها بعوامل وقوى خاريجة لا قدرة لنا على دفعها أو ردها
**نحو الوطن**
حدثت منذ سنة 1967 انعطافة جذرية في شعر نزار, وتحول من شاعر المشاعر النسائية والجسد الأنثوي الى شاعر سياسي, فقال في نكسة يونيو(حزيران)1967, قصيدة ذائعة الصيت "هوامش على دفتر النكسة", لكن الشاعر الكبير صالح جودت, شن عليه هجوما بالغ العنف. لم يقتصر على الوقوف ضد قصيدة نزار, بل طالب بمنع بث أعماله في مصر. ويقال ان سبب تلك الحملة هو نجاح نزار المتميز في مصر, في مجال الغناء بعد طهور أغانيه المشهورة مثل "أيظن" و"ماذا أقول له
ونجحت الحملة وصدر قرار بمنع أغاني نزار وأشعاره من خلال التلفزيون المصري, بل ومنع اسمه نهائيا, وصدر في الكتمان قرار بمنعه من دخول مصر. وكانت تلك القرارت بالنسبة اليه أشبه باصدار حكم الاعدام
لكن نزار بادر وأرسل الى الرئيس الراحل جمال عبد الناصر رسالة, هذا جزء منها:
" سيادة الرئيس, في هذه الأيام التي أصبحت أعصابنا فيها رمادا وطوقتنا الأحزان من كل مكان, يكتب اليك شاعر عربي, يتعرض اليوم من قبل السلطات الرسمية في الجمهورية العربية المتحدة لنوع من الظلم لا مثيل له في تاريخ الظلم. وتفاصيل القصة انني نشرت في أعقاب النكسة قصيدة عنوانها "هوامش على دفتر النكسة", أودعتها خلاصة ألمي وتمزقي, وكشف فيها عن مناطق الوجع في جسد أمتي العربية, لاقتناعي بأن ما انتهينا اليه لا يعالج بالتواري والهروب, وانما بالمواجهة الكاملة لعيوبنا وسيئاتنا. واذا كانت صرختي حادة وجارحة, وأنا أعترف سلفا بأنها كذلك, فلأن الصرخة تكون في حجم الطعنة, ولأن النزيف بمساحة الجرح. ومن منا ياسيادة الرئيس لم يصرخ بعد 5 حزيران؟ من منا لم يخدش السماء بأظافره؟من منا لم يكره نفسه وثيابه وظله على الأرض؟ ان قصيدتي كانت محاولة لتقييم أنفسنا كما نحن..
وختم رسالته بقوله: "ياسيادة الرئيس, لا أريد أن أصدق أن مثلك يعاقب النازف على نزيفه, والمجروح على جراحه ويسمح باضطهاد شاعر عربي يريد أن يكون شريفا وشجاعا, في ظل مواجهة نفسه وأمته, فدفع ثمن صدقه وشجاعته
ياسادة الرئيس, لا أصدق أن يحدث هذا في عصرك!
وكان تاريخ الرسالة 30 تشرين الأول(اكتوبر)سنة 1967, ونجحت هذه الرسالة في انقاذ نزار قباني من "الاعلام" بعد أن أوصلها الكاتب أحمد بهاء الدين الى الرئيس عبد الناصر. وعادت اغانيه تردد في الاذاعة والتلفزيون, وعن هذا يقول نزار:" كسرت الحاجز بين السلطة والأدب
وهكذا طاف نزار بأشرعة الشعر بحار الحب وعوالم الحرية, وخاض بقلمه غمار السياسة, يدافع ن عروبته, واضعا أمته أمام نفسها بلا تزييف أو تضليل, لا لأنه يكرههم فيتنقص منهم ويقلل من قدرهم, بل أنه يحب العروبة والعرب ولا يريد لهم الانغماس في بحر عدو لدود شمر عن ذراعيه وجمع عتاده وسلاحه وتربص به ريب المنون
ولم يبعد نزار عن قضايا وطنه, حتى عندما استقر به المقام بعيدا في مدينة الضباب, لندن, حيث كان قلبه في اتجاه عروبته دائما.
وقبل الرحيل بعشر سنوات, عاود نزار الحنين الى المنزل الذي ولد فيه, والى شجرة الياسمين التي علمته حب الجمال. وشد الرحال الى دمشق, حيث زار المنزل العائلي, الذي نشأ فيه, وكأنه أراد أن يودع ملاعب الطفولة
وأن للغريب أن يعود الى حضن الأرض التي أنجبته. بعد أن أسلم نزار الروح في 30 ابريل عام 1998, عاد الى دمشق جثمانا محمولا بالطائرة, الى رحم التي علمته الشعر والابداع وأهدته أبجدية الياسمين. فقد أوصى نزار قائلا:" أدفن في دمشق, الرحم التي عملتني الشعر والابداع, وأهدتني أبجدية الياسمين
رد: نبذة تاريخية عن الشاعر نزار قباني
(نزار توفيق قباني ) صور شخصية ،عائليه ،في تكريمة
تلك الأسطورة
الهبة التي أتت ألينا من السماء
من عشق دمشق من رثا العرب
من أعلن وفاة العروبة
من تجرأ وقدس الأنثى في زمن أعتبرها الكثير أنها جارية
أنه
نزار توفيق قباني
أليكم بعض الصور الأسطورية ....
بلقيس
وفي مسيرتة الأخيرة
وهل تكفي دموعنا لكي تعيد الينا ذاك الأسطورة
أنه مازال يسكننا بقصائده مازلت أسمع
أسمع
نبضاته
سجل لنا كل حياته
كل تجاربة
لمن يقراءمابين سطور قصائده
ييقن أن نزار ليس فقط شاعر وليس فقط ناثر وليس فقط ثائر أنه
رد: نبذة تاريخية عن الشاعر نزار قباني
يسلمووووووو كتييييييييير
على ما قدمت لنااااااااا
تحييااااااااااااااتي
على ما قدمت لنااااااااا
تحييااااااااااااااتي
نسمة جنون- مشرف ملتقى روائع الشعر العربي والشعراء الكبار
-
عدد الرسائل : 340
العمر : 37
تاريخ التسجيل : 04/04/2008
عالم محبي الموسيقار كاظم الساهر :: الأقسام العامة :: ملتقى روائع الشعر العربي والشعراء الكبار :: نزار قباني
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى